بقلم الجراند ماستر شريف هزاع
القسم الرابع : حول اليوتوبيا والهيتروتوبيا
يرجع مصطلح يوتوبيا الى الفيلسوف الانكليزي توماس مور وكلمة يوتوبيا مشتقة من اليونانية وتعني لا-مكان ثم استخدم المصطلح بعده في اللغات الاوربية ، ويلعب الخيال دورا محورياً في كتابة اليوتوبيات وتأسيسها في الادب او الفلسفة والسياسة ، لكن كتابة اليوتوبيا كمفهوم سبق صياغة مور لهذا المصطلح بقرون طويلة فنحن نعثر على الفكر اليوتوبي في لدى افلاطون في جمهوريته او كتاب بلوتارك وقبله سترابون كذلك نجدها في الفلسفة العربية عند الفيلسوف الكبير الفارابي في (اراء اهل المدينة الفاضلة) وصولا الى القرن العشرين مع هـ.ج ويلز ، وكل الكتابات القديمة او المعاصرة في هذا الشأن لاتعدو ان تكون الا معالجة ادبية وفكرية لفهم المكان زمانياً ، ومحاولة لمعالجة وضع متأزم في المدنيات والحضارات الانسانية بشكل منفصل عن المكان او بخلق مكان تخيلي مثالي لعلاج الزمان الواقعي.
بمراجعتنا لكل تلك الكتابات نستخلص نتيجة نهائية ان كل تلك المحاولات كانت ضرباً من الخيال غير واقعي وانها اضافت افكاراً لاجل صياغة مفاهيم حول الزمان والحدث وليس عن المكان والفضاء والفراغ وكانت محاولات ادبية في الفانتازيا والادب التخيلي انها وان حاولت صياغة مفاهيم عن المكان ، الا انها كانت كلها غير واقعية ، ولاتخرج عن كونها تعالج قضايا سياسية وليس معالجة للمكان والابعاد المكانية ، فنجد انها تعول بالدرجة الاساس على التقسيمات الادراية والسياسية واصول الحكم والعلاقات الاجتماعية وغيرها ، اما رؤيتهم للمكان بحد ذاته كمعطى متعلق بالزمان الذي يكتبون فيه فلم تكن ناضجة كما انها لاتهتم بالبناء المعماري بدرجة كبيرة بقدر بناء المجتمع الانساني المثالي لذا كل الكتابات في اليوتوبيا هي محاولة لمعالجة الزمان وليس المكان وارهاصات الرؤية القديمة وما تلاها من افكار او متغيرات في الافكار كانت محاولات لردم الخراب الزماني والانساني في العصر الذي كتبت فيه ، ولم تتخذ اي افاق تحليلية للمكان والبناء والعمارة وان كان تهتم بشكل هامشي بصيغة او وضعية المدينة اليوتوبية ولكن بشكل ظاهري مقتضب لتضع فيها المقررات المجتمعية لتعالج الخراب البشري الذي تتسم به عصورهم.
اتسمت كتاباتي في هذه المباحث القصيرة باتخاذ المنهج الاركولوجي عند فوكو وهي ان استعرضت بشكل موجز وقصير التغيرات الفكرية والانتقالات فانها تأتي ايضا وفق منهجية فوكو في علم (انساق الافكار) وهو المؤثر المباشر في كتابتي لهذا الموضوع ، وكنت قد نوهت الى ان العصر الحديث في فن العمارة يهتم بعنصر الزمان على انه مستقبلي او يركز على البناء ككتلة وامتلاء فراغات وتنسيق للمكان بما لايخرج عن الهندسة المجسمة والابعاد الثلاثة وهي بنظري كانت ايضا محاولات يوتوبية او معالجة للمكان بشكل يقترب من المثالية ولكنه كان اسيراً للهندسة والكتلة والفراغ ولم تكن العمارة الا حالة انزياح يخلقه المكان لرؤية الزمان كما قال فوكو ضمنا وهو يصف القرن العشرين انه كان موجها بالكامل في انشاء علاقات مكانية كحالة تجاوز ، ولو رجعنا الى مصطلح فوكو هيتروتوبيا فهو يعني به “مكان آخر”، كمواقع مكانية ومادية توجد خارج معايير المجتمع العادي ويخلق مساحة مخصصة لها ونظاما معينا ايضا ، اي انها ذات نظام اجتماعي بديل ومختلف وهنا يعطي مثالا عن الهيتروتوبيا كالسجون او المصحات العقلية او معسكرات تدريب الجيش او المدارس الداخلية وغيرها من الاماكن التي هي بالفعل اماكن اخرى.
بمقارنتنا بين مدينة في داخلها شكلها القديم وكي اكون قريبا في الطرح لنأخذ الموصل بجانبها الايمن القديم او حلب القديمة او حارات الشام القديمة ، في مقابل السوبر ماركت او حي سكني حديثة بيوته ، في البناء والانشاء بطراز حداثي في الفن المعماري ، نقارن تلك الازقة والحارات مع بناية احدى مديريات البلدة الخدمية ،سنجد الاختلاف واضح بين المدينة او العمارة القديمة والعمارة الحديثة المعاصرة في جانب اخر من المدينة نفسها وربما المتداخل معها ، هذه الاختلافات ايضا شكلت هيتروتوبيات حين نرصد تلك المدن بنظرة تحليلية ، اي موصلي يدخل الى ازقة المدينة القديمة ينفصل زمانا على اثر المكان والطراز المعماري عن كل صيغ ومعطيات المدينة كحاضر او واقع ما ان يستغرق بالمكان ، طراز البيوت المتقارب يخلق ذلك الشعور وازقة الشوارع العراقية او السورية تكاد تكاد تكون نفسها في المغرب والبرتغال وايطاليا وكثير من الدول ، الحارة المصرية عالم اخر منفصل عن المدينة المعاصرة للقاهرة او الاسكندرية، فهناك داخل المدن الكبرى رحلة تحولية دوما بين النموذج المكاني القديم وبين الحداثة ومابعد الحداثة في خلق الاماكن ، الطراز المعماري واهميته ودوره في الانطباعات والعيش فطنت له ايطاليا منذ زمن بما يخص مدينة البندقية (فينيسيا) فامرت بلدية المدينة انه لايسمح لاي شخص بناء منزل وفق طراز مغاير للمدينة القديمة بشكلها الخارجي ، وله الحرية في الداخل بالتأثيث الحديث .
يرجع مصطلح الهيتروتوبيا الى المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي طرحه في محاضرة القاها عام 1967، إلى كتاب “من الفضاءات الأخرى” وتلميحا من كتابه الشهير (الكلمات والاشياء) ، فقام بصياغة مصطلح الهيتروتوبيا لمجموعة من طلاب الهندسة المعمارية. وباستخدام مفهومه عن “المكان غير المتجانس”، وقد تناول فوكو جملة من المفاهيم في تحليله ودراسته للمكان وبين في سياق كلامه ان الاماكن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتجربتنا للوقت والزمن واننا خلال التطور التاريخي للمدنيات الانسانية وتغير الافكار والرؤى والمعتقدات الفكرية والفلسفية ، اختلف جراء هذه التغيرات كبيرة مفاهيم المكان والفضاء والعمارة ، اي انه تغيرت افكارنا عن المكان عبر الزمن ، والهيتروتوبيا شكلت في عصرنا المتطور تقنيا وتكنولوجيا مواقع مضادة في داخلها ترميز للمواقع المكانية التقليدية يكمن فيها صراعات او علائقية كما اصطلح عليها فوكو ، تتعارض معها الاماكن الحقيقية لانها على النقيض منها وتختلف عنها وتشكل بدورها محيطاً خياليا كما اليوتوبيا ، فكما ان اليوتوبيا انشاء خيالي غير واقعي ماديا فالهيتروتوبيا ايضا لا واقعية من حيث الفكرة المحمولة ، الا انها واقعية ومادية على الارض وموجودة وليست مثالية ولايمكن ان نعتبرها ديستوبيا وان كان ظاهرها ذلك.
الهيتروتوبيا تشير من المكان المختلف – الاخر- إلى المواقع المادية الفعلية على الارض الا انها توجد خارج معايير المجتمع العادي ، مما يخلق مساحات تسمح، أو حتى تتطلب، معايير اجتماعية بديلة ، دعني اقرب لك الصورة بين احساسنا او اسقاطنا الفكري والنفسي للمكان العادي والمكان الهيتروتوبي ، تخيل الان صورة مدينتك القديمة و اي بيت منها ، من جانب اخر استحضر في مخيلتك وزارة الدفاع او بناية الامن العامة .. كلذلك الامر بالنسبة للاماكن ذات الطابع الروحي انها حالة مغايرة كاملة فيها عنصر اليوتوبيا والهيتروتوبيا ، في الفكر القديم لو اننا استحضرناه الان فإن بعض الاماكن الارضية هي محاكاة للقبة السماوية ، او ان النظرة الكونية القديمة تنظر الى انه الاماكن الارضية مختلفة عن السماوية وان بعض تلك الماكن -الارضية- لاتتعارض مع السماوي بل تتوافق معه فتشكل طابعا او تردد لايتعلق ببناء المكان وهندسته المعمارية بالضرورة ، ولكن للشكل دور في التأثير مثلا المعبد ككنيسة او جامع.
اخيرا كي لا اطيل بهذا القسم ساخصص القسم الاخير القادم عن الهيترتوبيا والاماكن الروحية.
ملخص المنشور
- كلذلك الامر بالنسبة للاماكن ذات الطابع الروحي انها حالة مغايرة كاملة فيها عنصر اليوتوبيا والهيتروتوبيا ، في الفكر القديم لو اننا استحضرناه الان فإن بعض الاماكن الارضية هي محاكاة للقبة السماوية ، او ان النظرة الكونية القديمة تنظر الى انه الاماكن الارضية مختلفة عن السماوية وان بعض تلك الماكن -الارضية- لاتتعارض مع السماوي بل تتوافق معه فتشكل طابعا او تردد لايتعلق ببناء المكان وهندسته المعمارية بالضرورة ، ولكن للشكل دور في التأثير مثلا المعبد ككنيسة او جامع.
- يرجع مصطلح يوتوبيا الى الفيلسوف الانكليزي توماس مور وكلمة يوتوبيا مشتقة من اليونانية وتعني لا-مكان ثم استخدم المصطلح بعده في اللغات الاوربية ، ويلعب الخيال دورا محورياً في كتابة اليوتوبيات وتأسيسها في الادب او الفلسفة والسياسة ، لكن كتابة اليوتوبيا كمفهوم سبق صياغة مور لهذا المصطلح بقرون طويلة فنحن نعثر على الفكر اليوتوبي في لدى افلاطون في جمهوريته او كتاب بلوتارك وقبله سترابون كذلك نجدها في الفلسفة العربية عند الفيلسوف الكبير الفارابي في (اراء اهل المدينة الفاضلة) وصولا الى القرن العشرين مع هـ.
- الهيتروتوبيا تشير من المكان المختلف – الاخر- إلى المواقع المادية الفعلية على الارض الا انها توجد خارج معايير المجتمع العادي ، مما يخلق مساحات تسمح، أو حتى تتطلب، معايير اجتماعية بديلة ، دعني اقرب لك الصورة بين احساسنا او اسقاطنا الفكري والنفسي للمكان العادي والمكان الهيتروتوبي ، تخيل الان صورة مدينتك القديمة و اي بيت منها ، من جانب اخر استحضر في مخيلتك وزارة الدفاع او بناية الامن العامة .
- ج ويلز ، وكل الكتابات القديمة او المعاصرة في هذا الشأن لاتعدو ان تكون الا معالجة ادبية وفكرية لفهم المكان زمانياً ، ومحاولة لمعالجة وضع متأزم في المدنيات والحضارات الانسانية بشكل منفصل عن المكان او بخلق مكان تخيلي مثالي لعلاج الزمان الواقعي.

